الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَهُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِلَهُكُمْ، أَيُّهَا اَلْعَادِلُونَ بِاَللَّهِ غَيْرَهُ "اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ "، يَعْنِي: اَلَّذِي اِبْتَدَأَ خَلْقَكُمْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، فَأَوْجَدَكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا" مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ "، يَعْنِي: مِنْ آدَمَ كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ "، قَالَ: آدَمُ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَهُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} "، مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، فَإِنَّ أَهْلَ اَلتَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ مُخْتَلِفُونَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَهُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَمِنْكُمْ مُسْتَقَرٌّ فِي اَلرَّحِمِ، وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ فِي اَلْقَبْرِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اَللَّهُ لِنَشْرِ اَلْقِيَامَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا، [سُورَةُ هُودٍ: 6]. قَالَ: "مُسْتَقَرُّهَا "، فِي اَلْأَرْحَام" وَمُسْتَوْدَعُهَا "، حَيْثُ تَمُوتُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: "اَلْمُسْتَوْدَع" حَيْثُ تَمُوتُ، وَ" اَلْمُسْتَقَرُّ "، مَا فِي اَلرَّحِمِ. حُدِّثْتُ عَنْ عُبَيْدِ اَللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، اَلرَّحِمُ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، اَلْمَكَانُ اَلَّذِي تَمُوتُ فِيهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اَلْمُحَارِبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ وَعَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا قَالَ: {مُسْتَقَرَّهَا}، فِي اَلْأَرْحَامِ {وَمُسْتَوْدَعَهَا}، فِي اَلْأَرْضِ، حَيْثُ تَمُوتُ فِيهَا. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو اَلسَّائِبِ قَالَا حَدَّثَنَا اِبْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مَقْسِمٍ قَالَ: "مُسْتَقَرَّهَا "، فِي اَلصُّلْبِ حَيْثُ تَأْوِي إِلَيْه" وَمُسْتَوْدَعَهَا "، حَيْثُ تَمُوتُ. وَقَالَ آخَرُونَ: " اَلْمُسْتَوْدَعُ "، مَا كَانَ فِي أَصْلَابِ اَلْآبَاءِ وَ" اَلْمُسْتَقَرُّ "، مَا كَانَ فِي بُطُونِ اَلنِّسَاءِ، وَبُطُونِ اَلْأَرْضِ، أَوْ عَلَى ظُهُورِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ عُلَيَّةَ قَالَ حَدَّثَنَا كُلْثُومُ بْنُ جَبْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: " فَمُسْتَقَرُّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، قَالَ: مُسْتَوْدَعُونَ، مَا كَانُوا فِي أَصْلَابِ اَلرِّجَالَِ. فَإِذَا قَرُّوا فِي أَرْحَامِ اَلنِّسَاءِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ اَلْأَرْضِ أَوْ فِي بَطْنِهَا، فَقَدِ اِسْتَقَرُّوا. حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، قَالَ: اَلْمُسْتَوْدَعُونَ مَا كَانُوا فِي أَصْلَابِ اَلرِّجَالِ. فَإِذَا قَرُّوا فِي أَرْحَامِ اَلنِّسَاءِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ اَلْأَرْضِ، فَقَدِ اِسْتَقَرُّوا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ اَلْمُغِيرَةِ بْنِ اَلنُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}، [سُورَةُ هُودٍ: 6]. قَالَ: "اَلْمُسْتَوْدَع" فِي اَلصُّلْبِ وَ" اَلْمُسْتَقَرُّ "، مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ اَلْأَرْضِ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: فَمُسْتَقَرٌّ فِي اَلْأَرْضِ عَلَى ظُهُورِهَا، وَمُسْتَوْدَعٌ عِنْدَ اَللَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ اَلْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي اَلْجَبْرِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ حَذْلَمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: "اَلْمُسْتَقَر" اَلْأَرْضُ، " وَالْمُسْتَوْدَعُ "، عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اَللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، اَلْأَرْضُ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، عِنْدَ رَبِّكَ. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اَللَّهِ: "مُسْتَقَرُّهَا "، فِي اَلدُّنْيَا، " وَمُسْتَوْدَعُهَا "، فِي اَلْآخِرَةِ يَعْنِي " فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ". حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ اَلْمُبَارَكِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: " اَلْمُسْتَوْدَعُ "، فِي اَلصُّلْبِ، وَ" اَلْمُسْتَقَرُّ "، فِي اَلْآخِرَةِ وَعَلَى وَجْهِ اَلْأَرْضِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَمُسْتَقَرٌّ فِي اَلرَّحِمِ، وَمُسْتَوْدَعٌ فِي اَلصُّلْبِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو اَلْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي اَلْحَارِثِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اَللَّهِ: " فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، قَالَ: مُسْتَقَرٌّ فِي اَلرَّحِمِ، وَمُسْتَوْدَعٌ فِي صُلْبٍ، لَمْ يُخْلَقْ سَيُخْلَقُ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى اَلْجَابِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ: "فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، اَلَّذِي قَدِ اِسْتَقَرَّ فِي اَلرَّحِمِ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، اَلَّذِي قَدِ اِسْتَوْدَعَ فِي اَلصُّلْبِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أَبِي اَلْجَبْرِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: سَلْ! فَقُلْتُ: "فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَع"؟ قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، فِي اَلرَّحِمِ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، مَا اِسْتَوْدَعَ فِي اَلصُّلْبِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو اَلسَّائِبِ قَالَا حَدَّثَنَا اِبْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: "فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ " اَلرَّحِمُ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، مَا كَانَ عِنْدَ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ مِمَّا هُوَ خَالِقُهُ وَلَمْ يَخْلُقْ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [سُورَةُ هُودٍ: 6]، قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، مَا كَانَ فِي اَلرَّحِمِ مِمَّا هُوَ حَيٌّ، وَمِمَّا قَدْ مَاتَ وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، مَا فِي اَلصُّلْبِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ لِي اِبْنُ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ وَجْهِي أَتَزَوَّجْتَ يَا اِبْنَ جُبَيْرٍ؟ قَالَ: قُلْتُ لَا وَمَا أُرِيدُ ذَاكَ يَوْمِي هَذَا! قَالَ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ سَيَخْرُجُ مَا كَانَ فِي صُلْبِكَ مِنَ اَلْمُسْتَوْدَعِينَ. حَدَّثَنَا اِبْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ لِي اِبْنُ عَبَّاسٍ: تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: لَا ! قَالَ: فَضَرَبَ ظَهْرِي وَقَالَ: مَا كَانَ مِنْ مُسْتَوْدَعٍ فِي ظَهْرِكَ سَيَخْرُجُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، فِي اَلْأَرْحَامِ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، فِي اَلصُّلْبِ، لَمْ يُخْلَقْ وَهُوَ خَالِقُهُ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: "فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، فِي اَلرَّحِمِ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، مَا اِسْتَوْدَعَ فِي أَصْلَابِ اَلرِّجَالِ وَالدَّوَابِّ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، مَا اِسْتَقَرَّ فِي اَلرَّحِمِ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، مَا اِسْتَوْدَعَ فِي اَلصُّلْبِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أَبِي اَلْجَبْرِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَمَّارٍ اَلدُّهْنِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ كُرَيْبٍ قَالَ: دَعَانِي اِبْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: اُكْتُبْ: "بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، إِلَى فُلَانٍ حَبْرِ تَيْمَاءَ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اَللَّهَ اَلَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ قَالَ فَقُلْتُ: تَبْدَؤُهُ تَقُولُ: اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلسَّلَامُ ثُمَّ قَالَ: اُكْتُب" سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَحَدَّثَنِي عَنْ: "مُسْتَقَرٍّ وَمُسْتَوْدَعٍ ". قَالَ: ثُمَّ بَعَثَنِي بِالْكِتَابِ إِلَى اَلْيَهُودِيِّ، فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ. فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ: مَرْحَبًا بِكِتَابٍ خَلِيلِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ! فَذَهَبَ بِي إِلَى بَيْتِهِ، فَفَتَحَ أَسْفَاطًا لَهُ كَبِيرَةً، فَجَعَلَ يَطْرَحُ تِلْكَ اَلْأَشْيَاءَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا. قَالَ قُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: هَذِهِ أَشْيَاءُ كَتَبَهَا اَلْيَهُودُ ! حَتَّى أَخْرَجَ سِفْرَ مُوسَى عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، اَلرَّحِمُ، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَنُقِرُّ فِي اَلْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [سُورَةُ اَلْحَجِّ: 5]، وَقَرَأَ: {وَلَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ}، [سُورَةُ اَلْبَقَرَةِ: 36]، [سُورَةُ اَلْأَعْرَافِ: 24]. قَالَ: مُسْتَقَرُّهُ فَوْقَ اَلْأَرْضِ، وَمُسْتَقَرُّهُ فِي اَلرَّحِمِ، وَمُسْتَقَرُّهُ تَحْتَ اَلْأَرْضِ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى اَلْجَنَّةِ أَوْ إِلَى اَلنَّارِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: "فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، مَا اِسْتَقَرَّ فِي أَرْحَامِ اَلنِّسَاءِ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، مَا اِسْتَوْدَعَ فِي أَصْلَابِ اَلرِّجَالِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اَللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، اَلرَّحِمُ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، فِي أَصْلَابِ اَلرِّجَالِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَعَنْ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، اَلرَّحِمُ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، فِي اَلْأَصْلَابِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "فَمُسْتَقَرٌّ "، مَا اِسْتَقَرَّ فِي أَرْحَامِ اَلنِّسَاء" وَمُسْتَوْدَعٌ "، مَا كَانَ فِي أَصْلَابِ اَلرِّجَالِ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، مَا اِسْتَقَرَّ فِي اَلرَّحِمِ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، مَا اِسْتَوْدَعَ فِي اَلصُّلْبِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "اَلْمُسْتَقََرُّ "، اَلرَّحِمُ، " وَالْمُسْتَوْدَعُ "، اَلصُّلْبُ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنِ اِبْنِ عَوْنٍ قَالَ: أَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ اَلْمَسَاءِ فَأَخْبَرُونَا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَقُلْنَا: هَلْ سَأَلَهُ أَحَدٌ عَنْ شَيْءٍ؟ قَالُوا: عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ اَلْأَسْوَدِ، عَنْ "اَلْمُسْتَقَر" وَ" اَلْمُسْتَوْدَعِ "، فَقَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، فِي اَلرَّحِمِ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، فِي اَلصُّلْبِ. حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ وَقَدْ مَاتَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُهُمْ: أَنَّ عَبْدَ اَلرَّحْمَنِ بْنَ اَلْأَسْوَدِ سَأَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ عَنْ "اَلْمُسْتَقَر" وَ" اَلْمُسْتَوْدَعِ "، فَقَالَ: "اَلْمُسْتَقَرُّ "، فِي اَلرَّحِمِ، " وَالْمُسْتَوْدَعُ "، فِي اَلصُّلْبِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ اِبْنِ عَوْنٍ: أَتَيْنَا مَنْزِلَ إِبْرَاهِيمَ، فَسَأَلَنَا عَنْهُ فَقَالُوا: قَدْ تُوُفِّيَ. وَسَأَلَهُ عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ اَلْأَسْوَدِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي بِهِ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ اِبْنِ عَوْنٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَبْدَ اَلرَّحْمَنِ بْنَ اَلْأَسْوَدِ سَأَلَ إِبْرَاهِيمَ عَنْ ذَلِكَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اَللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنِ اَلْعَلَاءِ بْنِ هَارُونَ قَالَ: اِنْتَهَيْتُ إِلَى مَنْزِلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ قُبِضَ، فَقُلْتُ لَهُمْ: هَلْ سَأَلَهُ أَحَدٌ عَنْ شَيْءٍ؟ قَالُوا: سَأَلَهُ عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ اَلْأَسْوَدِ عَنْ "مُسْتَقَرٍّ وَمُسْتَوْدَعٍ "، فَقَالَ: أَمَّا" اَلْمُسْتَقَرُّ "، فَمَا اِسْتَقَرَّ فِي أَرْحَامِ اَلنِّسَاءِ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، مَا فِي أَصْلَابِ اَلرِّجَالِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو اَلسَّائِبِ قَالَا حَدَّثَنَا اِبْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي "فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، اَلرَّحِمُ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، اَلصُّلْبُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ حَدَّثَنِي سُفْيَانُ، عَنْ رَجُلٍ حَدَّثَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ لِي اِبْنُ عَبَّاسٍ: أَلَّا تَنْكِحَ؟ ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنِّي أَقُولُ لَكَ هَذَا، وَإِنِّي لِأَعْلَمُ أَنَّ اَللَّهَ مُخْرِجٌ مِنْ صُلْبِكَ مَا كَانَ فِيهِ مُسْتَوْدَعٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ قَالَ: " اَلْمُسْتَقَرُّ "، فِي اَلرَّحِمِ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، فِي اَلصُّلْبِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: "فَمُسْتَقَرٌ وَمُسْتَوْدَعٌ "، قَالَ: " مُسْتَقَرٌّ "، فِي اَلرَّحِمِ، وَ" مُسْتَوْدَعٌ "، فِي اَلصُّلْبِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: "فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، قَالَ: " مُسْتَقَرٌّ "، فِي اَلرَّحِمِ، وَ" مُسْتَوْدَعٌ "، فِي اَلصُّلْبِ. حُدِّثْتُ عَنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ اَلْفَرَجِِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ اَلضَّحَّاكِ: "فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، أَمَّا" مُسْتَقَرٌّ "، فَمَا اِسْتَقَرَّ فِي اَلرَّحِمِ وَأَمَّا " مُسْتَوْدَعٌ "، فَمَا اِسْتَوْدَعَ فِي اَلصُّلْبِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، قَالَ: " مُسْتَقَرٌّ "، فِي اَلْأَرْحَامِ، " وَمُسْتَوْدَعٌ "، فِي اَلْأَصْلَابِ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحَجَّاجُ بْنُ اَلْمِنْهَالِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ اَلسَّائِبِِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَا "مُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، " اَلْمُسْتَقَرُّ "، فِي اَلرَّحِمِ، وَ" اَلْمُسْتَوْدَعُ "، فِي اَلصُّلْبِ. وَقَالَ آخَرُونَ: "اَلْمُسْتَقَرُّ "، فِي اَلْقَبْرِ، " وَالْمُسْتَوْدَعُ "، فِي اَلدُّنْيَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ اَلْحَسَنُ يَقُولُ: "مُسْتَقَرٌّ "، فِي اَلْقَبْرِ، " وَمُسْتَوْدَعٌ " فِي اَلدُّنْيَا، وَأَوْشَكَ أَنْ يَلْحَقَ بِصَاحِبِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى اَلتَّأْوِيلَاتِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اَللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّ بِقَوْلِهِ: "فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ "، كُلَّ خَلْقِهِ اَلَّذِي أَنْشَأَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُسْتَقَرًّا وَمُسْتَوْدَعًا، وَلَمْ يُخَصَّصْ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى. وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ بَنِي آدَمَ مُسْتَقَرًّا فِي اَلرَّحِمِ، وَمُسْتَوْدَعًا فِي اَلصُّلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُسْتَقَرٌّ عَلَى ظَهْرِ اَلْأَرْضِ أَوْ بَطْنِهَا، وَمُسْتَوْدَعٌ فِي أَصْلَابِ اَلرِّجَالِ، وَمِنْهُمْ مُسْتَقَرٌّ فِي اَلْقَبْرِ، مُسْتَوْدَعٌ عَلَى ظَهْرِ اَلْأَرْضِ. فَكُل" مُسْتَقَرٌّ "أَو" مُسْتَوْدَعٌ "بِمَعْنًى مِنْ هَذِهِ اَلْمَعَانِي، فَدَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: " فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ " وَمُرَادٌ بِهِ، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ خَبَرٌ يَجِبُ اَلتَّسْلِيمُ لَهُ بِأَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى، وَخَاصٌّ دُونَ عَامٍ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: " فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ". فَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}، بِمَعْنَى: فَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَقَرَّهُ اَللَّهُ فِي مَقَرِّهِ، فَهُوَ مُسْتَقَرٌّ وَمِنْهُمْ مَنِ اِسْتَوْدَعَهُ اَللَّهُ فِيمَا اِسْتَوْدَعَهُ فِيهِ، فَهُوَ مُسْتَوْدَعٌ فِيهِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ اَلْبَصْرَةِ: (فَمُسْتَقَرٌّ)، بِكَسْرِ "اَلْقَاف" بِمَعْنَى: فَمِنْهُمْ مَنِ اِسْتَقَرَّ فِي مَقَرِّهِ، فَهُوَ مُسْتَقَرٌّ بِهِ. وَأَوْلَى اَلْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي، وَإِنْ كَانَ لِكِلَيْهِمَا عِنْدِي وَجْهٌ صَحِيحٌ: (فَمُسْتَقَرٌّ)، بِمَعْنَى: اسْتَقَرَّهُ اَللَّهُ فِي مُسْتَقَرِّهِ، لِيَأْتَلِفَ اَلْمَعْنَى فِيهِ وَفِي "اَلْمُسْتَوْدَعِ "، فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَفِي إِضَافَةِ اَلْخَبَرِ بِذَلِكَ إِلَى اَللَّهِ فِي أَنَّهُ اَلْمُسْتَقَرُّ هَذَا، وَالْمُسْتَوْدَعُ هَذَا. وَذَلِكَ أَنَّ اَلْجَمِيعَ مُجْمِعُونَ عَلَى قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: " وَمُسْتَوْدَعٌ "بِفَتْح" اَلدَّالِ "عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَإِجْرَاءُ اَلْأَوَّلِ أَعْنِي قَوْلَهُ: " فَمُسْتَقَرٌّ " عَلَيْهِ، أَشْبَهَ مِنْ عُدُولِهِ عَنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ "، يَقُولُ تَعَالَى: قَدْ بَيَّنَّا اَلْحُجَجَ، وَمَيَّزْنَا اَلْأَدِلَّةَ وَالْأَعْلَامَ وَأَحْكَمْنَاهَا" لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ "، مَوَاقِعَ اَلْحُجَجِ وَمَوَاضِعَ اَلْعِبَرِ، وَيَفْهَمُونَ اَلْآيَاتِ وَالذِّكْرَ، فَإِنَّهُمْ إِذَا اِعْتَبَرُوا بِمَا نَبَّهْتُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِنْشَائِي مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مَا عَايَنُوا مِنَ اَلْبَشَرِ، وَخَلْقِي مَا خَلَقْتُ مِنْهَا مِنْ عَجَائِبِ اَلْأَلْوَانِ وَالصُّوَرِ، عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ وَلَا شَرِيكٌ فَيُشْرِكُوهُ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ "، يَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَهُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاَللَّهُ اَلَّذِي لَهُ اَلْعِبَادَةُ خَالِصَةً لَا شَرِيكَ فِيهَا لِشَيْءٍ سِوَاهُ، هُوَ اَلْإِلَهُ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً " {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} "، فَأَخْرَجْنَا بِالْمَاءِ اَلَّذِي أَنْزَلْنَاهُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ غِذَاءِ اَلْأَنْعَامِ وَالْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ وَالْوَحْشِ وَأَرْزَاقِ بَنِي آدَمَ وَأَقْوَاتِهِمْ، مَا يَتَغَذَّوْنَ بِهِ وَيَأْكُلُونَهُ فَيَنْبُتُونَ عَلَيْهِ وَيَنْمُونَ. وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} "، فَأَخْرَجْنَا بِهِ مَا يَنْبُتُ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ وَيَنْمُو عَلَيْهِ وَيَصْلُحُ. وَلَوْ قِيلَ: مَعْنَاهُ: فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ اَلنَّبَاتِ، فَيَكُونُ " كُلُّ شَيْءٍ "، هُوَ أَصْنَافُ اَلنَّبَاتِ كَانَ مَذْهَبًا، وَإِنْ كَانَ اَلْوَجْهُ اَلصَّحِيحُ هُوَ اَلْقَوْلُ اَلْأَوَّلُ. وَقَوْلُهُ: "فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا "، يَقُولُ: " فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ "، يَعْنِي: مِنَ اَلْمَاءِ اَلَّذِي أَنْزَلْنَاهُ مِنَ اَلسَّمَاءِ " خَضِرًا "، رَطْبًا مِنَ اَلزَّرْعِ. " وَالْخَضِرُ "، هُوَ "اَلْأَخْضَرُ "، كَقَوْلِ اَلْعَرَبِ: " أَرِنِيهَا نَمِرَةً، أُرِكْهَا مَطِرَةً ". يُقَالُ: "خَضِرَتِ اَلْأَرْضُ خَضَرًا. وَخَضَارَةً ". وَ" اَلْخُضْر" رَطْبُ اَلْبُقُولِ، وَيُقَالُ: "نَخْلَةٌ خَضِيرَةٌ "، إِذَا كَانَتْ تَرْمِي بِبُسْرِهَا أَخْضَرَ قَبْلَ أَنْ يَنْضَجَ. وَ" قَدِ اُخْتُضِرَ اَلرَّجُل" وَ" اُغْتُضِرَ "، إِذَا مَاتَ شَابًّا مُصَحَّحًا. وَيُقَالُ: " هُوَ لَكَ خَضِرًا مَضِرًا "، أَيْ هَنِيئًا مَرِيئًا. قَوْلُهُ: " نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا "، يَقُولُ: نُخْرِجُ مِنَ اَلْخَضِرِ حَبًّا يَعْنِي: مَا فِي اَلسُّنْبُلِ، سُنْبُلِ اَلْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْأُرْزِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ اَلسَّنَابِلِ اَلَّتِي حَبُّهَا يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةُ أَهْلِ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ قَوْلُهُ: " مِنْهُ خَضِِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا "، فَهَذَا اَلسُّنْبُلُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمِنَ اَلنَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنَ اَلنَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ، وَلِذَلِكَ رُفِعَتْ " اَلْقِنْوَانُ ". وَ "اَلْقِنْوَان" جَمْعُ "قِنْوٍ "، كَمَا" اَلصِّنْوَانُ "جَمْع" صِنْوٍ "، وَهُوَ اَلْعِذْقُ، يُقَالُ لِلْوَاحِدِ هُوَ "قِنْوٌ "، وَ" قُنْو" وَ" قَنَا "، يُثَنَّى "قِنْوَانِ "، وَيُجْمَع" قِنْوَانٌ "وَ" قُنْوَانٌ ". قَالُوا فِي جَمْعِ قَلِيلِهِ: " ثَلَاثَةُ أَقْنَاءِ ". وَ" اَلْقِنْوَانُ " مِنْ لُغَةِ اَلْحِجَازِ، وَ" اَلْقُنْوَانُ "، مِنْ لُغَةِ قَيْسٍ، وَقَالَ اِمْرُؤُ اَلْقَيْسِ: فَأَثَّتْ أَعَالِيهِ، وَآدَتْ أُصُولُهُ *** وَمَالَ بِقِنْوانٍ مِنَ الْبُسْرِ أَحْمَرَا وَ " قِنْيانٌ "، جَمِيعًا، وَقَالَ آخَرُ: لَهَا ذَنَبٌ كَالْقِنْوِ قَدْ مَذِلَتْ بِهِ *** وَأَسْحَمَ لِلتَّخْطَارِ بَعْدَ التَّشَذُّرِ وَتَمِيمٌ تَقُولُ: "قُنْيان" بِالْيَاءِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: " دَانِيَةٌ "، قَرِيبَةٌ مُتَهَدِّلَةٌ. وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: "قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ "، يَعْنِي بِـ" اَلْقِنْوَانِ اَلدَّانِيَةِ "، قِصَارَ اَلنَّخْلِ، لَاصِقَةً عُذُوقُهَا بِالْأَرْضِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} "، قَالَ: عُذُوقٌ مُتَهَدِّلَةٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ "، يَقُولُ: مُتَهَدِّلَةٌ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَحَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ اَلْبَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: " قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ "، قَالَ: قَرِيبَةٌ. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا اَلثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ اَلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: " قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ "، قَالَ: قَرِيبَةٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَمِنَ اَلنَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} "، قَالَ: اَلدَّانِيَةُ، لِتَهَدُّلِ اَلْعُذُوقِ مِنَ اَلطَّلْعِ. حُدِّثْتُ عَنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ اَلْفَرَجِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ اَلضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {وَمِنَ اَلنَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} "، يَعْنِي اَلنَّخْلَ اَلْقِصَارَ اَلْمُلْتَزِقَةَ بِالْأَرْضِ، وَ" اَلْقِنْوَانُ " طَلْعُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَخْرَجْنَا أَيْضًا جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ يَعْنِي: بَسَاتِينَ مِنْ أَعْنَابٍ. وَاخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَهُ عَامَّةُ الْقَرَأَةِ: {وَجَنَّاتٍ} نَصْبًا، غَيْرَ أَنَّ "اَلتَّاء" كُسِرَتْ، لِأَنَّهَا "تَاء" جُمَعُ اَلْمُؤَنَّثِ، وَهِيَ تُخْفَضُ فِي مَوْضِعِ اَلنَّصْبِ. وَقَدّ:- حَدَّثَنِي اَلْحَارِثُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ، عَنِ اَلْكِسَائِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا حَمْزَةُ، عَنِ اَلْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَرَأَ: {وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ}. بِالرَّفْعِ، فَرَفَعَ "جَنَّات" عَلَى إِتْبَاعِهَا "اَلْقِنْوَان" فِي اَلْإِعْرَابِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ جِنْسِهَا، كَمَا قَالَ اَلشَّاعِرُ: وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى *** مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقِرَاءَةُ اَلَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ أَنْ يُقْرَأَ ذَلِكَ إِلَّا بِهَا، اَلنَّصْبُ: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ)، لِإِجْمَاعِ اَلْحُجَّةِ مِنَ الْقَرَأَةِ عَلَى تَصْوِيبِهَا وَالْقِرَاءَةِ بِهَا، وَرَفْضِهِمْ مَا عَدَاهَا، وَبُعْدِ مَعْنَى ذَلِكَ مِنَ اَلصَّوَابِ إِذْ قُرِئَ رَفْعًا. وَقَوْلُهُ: "وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ "، عَطَفَ بِـ" اَلزَّيْتُونَ "عَلَى" اَلْجَنَّاتِ "، بِمَعْنَى: وَأَخْرَجْنَا اَلزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي مَعْنَى " مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ "، مَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} "، قَالَ: مُشْتَبَهًا وَرَقُهُ، مُخْتَلِفًا ثَمَرُهُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ: مُشْتَبِهًا فِي اَلْخَلْقِ، مُخْتَلِفًا فِي اَلطَّعْمِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمَعْنَى اَلْكَلَامِ: وَشَجَرُ اَلزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ، فَاكْتَفَى مِنْ ذِكْرِ "اَلشَّجَر" بِذِكْرِ ثَمَرِهِ، كَمَا قِيلَ: (وَاسْأَلِ اَلْقَرْيَةَ)، [سُورَةُ يُوسُفَ: 82]، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ "اَلْقَرْيَة" مِنْ ذِكْرِ " أَهْلِهَا "، لِمَعْرِفَةِ اَلْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ بِمَعْنَاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {اُنْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اِخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ اَلْبَصْرَةِ: {اُنْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ}، بِفَتْحِ "اَلثَّاء" وَ" اَلْمِيمِ ". وَقَرَأَهُ بَعْضُ قَرَأَةِ أَهْلِ مَكَّةَ وَعَامَّةُ قَرَأَةِ اَلْكُوفِيِّينَ: {إِلَى ثُمُرِهِ}، بِضَمِّ "اَلثَّاء" وَ" اَلْمِيمِ ". فَكَأَنَّ مَنْ فَتْحَ "اَلثَّاء" وَ" اَلْمِيمَ "مِنْ ذَلِكَ، وَجَّهَ مَعْنَى اَلْكَلَامِ: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِ هَذِهِ اَلْأَشْجَارِ اَلَّتِي سَمَّيْنَا مِنَ اَلنَّخْلِ وَالْأَعْنَابِ وَالزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ إِذَا أَثْمَرَ وَأَن" اَلثَّمَرَ "جَمْع" ثَمَرَةٍ "، كَمَا "اَلْقَصَبُ "، جَمْع" قَصَبَةٍ "، وَ" اَلْخَشَبُ "جَمْع" خَشَبَةٍ ". وَكَأَنَّ مَنْ ضَمَّ "اَلثَّاء" وَ" اَلْمِيمَ "، وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ جَمَعَ "ثِمَارٍ "، كَمَا" اَلْحُمُرُ "جَمْع" حِمَارٍ "، وَ" اَلْجُرُبُ "جَمْع" جِرَابٍ "، وَقَدْ:- حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ، عَنِ اِبْنِ إِدْرِيسَ، عَنِ اَلْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {إِلَى ثُمُرِهِ}، يَقُولُ: هُوَأَصْنَافُ اَلْمَالِما هى. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي حَمَّادٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اَللَّهِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " اَلثُّمُرُ "، هُوَ اَلْمَالُ وَ" اَلثَّمَرُ "، ثَمَرُ اَلنَّخْلِ. وَأَوْلَى اَلْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {اُنْظُرُوا إِلَى ثُمُرِهِ} بِضَمِّ "اَلثَّاء" وَ" اَلْمِيمِ "، لِأَنَّ اَللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَصَفَ أَصْنَافًا مِنَ اَلْمَالِ كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَكَذَلِكَ حَبُّ اَلزَّرْعِ اَلْمُتَرَاكِبُ، وَقِنْوَانُ اَلنَّخْلِ اَلدَّانِيَةُ، وَالْجَنَّاتُ مِنَ اَلْأَعْنَابِ وَالزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَنْوَاعًا مِنَ اَلثَّمَرِ، فَجُمِعَتِ "اَلثَّمَرَة" " ثَمَرًا "، ثُمَّ جَمِعَ "اَلثَّمَر" " ثِمَارًا "، ثُمَّ جُمِعَ ذَلِكَ فَقِيلَ: {اُنْظُرُوا إِلَى ثُمُرِهِ}، فَكَانَ ذَلِكَ جَمْعَ "اَلثِّمَار" وَ" اَلثِّمَارُ "جَمْع" اَلثَّمَرِ " وَ" إِثْمَارُهُ "، عَقْدُ اَلثَّمَرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَيَنْعِهِ "، فَإِنَّهُ نُضْجُهُ وَبُلُوغُهُ حِينَ يَبْلُغُ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ اَلْعِلْمِ بِكَلَامِ اَلْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ اَلْبَصْرَةِ يَقُولُ فِي "يَنْعِه" إِذَا فُتِحَتْ يَاؤُهُ، هُوَ جَمْعُ "يَانِعٍ "، كَمَا" اَلتَّجْرُ "جَمْع" تَاجِرٍ "، وَ" اَلصَّحْبُ "جَمْع" صَاحِبٍ ". وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ اَلْكُوفَةِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَرَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: "يَنَعَ اَلثَّمَرُ فَهُوَ يَيْنَعُ يَنْعًا "، وَيُحْكَى فِي مَصْدَرِهِ عَنْ اَلْعَرَبِ لُغَاتٍ ثَلَاثًا: " يَنْعَ "، وَ" يُنْعَ "، وَ" يَنَعَ "، وَكَذَلِكَ فِي "اَلنَّضْج" " اَلنُّضْجِ " وَ" اَلنَّضَجِ ". وَأَمَّا فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: {وَيَانِعِهِ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: وَنَاضِجُهُ، وَبَالِغُهُ. وَقَدْ يَجُوزُ فِي مَصْدَرِهِ "يُنُوعًا "، وَمَسْمُوعٌ مِنَ اَلْعَرَبِ: " أَيْنَعَتِ اَلثَّمَرَةُ تُونِعُ إِينَاعًا "، وَمِنْ لُغَةِ اَلَّذِينَ قَالُوا: " يَنَعَ "، قَوْلُ اَلشَّاعِرِ: فِي قِبَابٍ عِنْدَ دَسْكَرَةٍ *** حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: " وَيَنْعِهِ "، يَعْنِي: إِذَا نَضِجَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ "، قَالَ: " يَنْعُهُ "، نُضْجُهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " اُنْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ "، أَيْ نُضْجِهِ. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " وَيَنْعِهِ "، قَالَ: نُضْجُهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " وَيَنْعِهِ "، يَقُولُ: وَنُضْجِهِ. حُدِّثْتُ عَنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ اَلْفَرَجِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ اَلضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " وَيَنْعِهِ "، قَالَ: يَعْنِي نُضْجَهُ. حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: " وَيَنْعِهِ "، قَالَ: نُضْجِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّ فِي إِنْزَالِ اَللَّهِ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلْمَاءَ اَلَّذِي أَخْرَجَ بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْخَضِرَ اَلَّذِي أَخْرَجَ مِنْهُ اَلْحَبَّ اَلْمُتَرَاكِبَ، وَسَائِرَ مَا عَدَّدَ فِي هَذِهِ اَلْآيَةِ مِنْ صُنُوفِ خُلْقِهِ "لِآيَاتٍ "، يَقُولُ: فِي ذَلِكُمْ، أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِذَا أَنْتُمْ نَظَرْتُمْ إِلَى ثَمَرِهِ عِنْدَ عَقْدِ ثَمَرِهِ، وَعِنْدَ يَنْعِهِ وَانْتِهَائِهِ، فَرَأَيْتُمُ اِخْتِلَافَ أَحْوَالِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي زِيَادَتِهِ وَنُمُوِّهِ، عَلِمْتُمْ أَنَّ لَهُ مُدَبِّرًا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلَا تَصْلُحُ اَلْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ دُونَ اَلْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ، وَكَانَ فِيهِ حُجَجٌ وَبُرْهَانٌ وَبَيَان" لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ "، يَقُولُ: لِقَوْمٍ يُصَدِّقُونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اَللَّهِ وَقَُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ. وَخَصَّ بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ، لِأَنَّهُمْ هُمُ اَلْمُنْتَفِعُونَ بِحُجَجِ اَللَّهِ وَالْمُعْتَبِرُونَ بِهَا، دُونَ مَنْ قَدْ طَبَعَ اَللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، فَلَا يَعْرِفُ حَقًّا مِنْ بَاطِلٍ، وَلَا يَتَبَيَّنُ هُدًى مِنْ ضَلَالَةٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَجَعَلَ هَؤُلَاءِ الْعَادِلُونَ بِرَبِّهِمُ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [سُورَةُ الصَّافَّاتِ: 158]. وَفِي الْجِنِّ وَجْهَانِ مِنَ النَّصْبِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلشُّرَكَاءِ.. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ الْجِنَّ شُرَكَاءَ، وَهُوَ خَالِقُهُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: “ وَخَلَقَهُمْ “. فَقَرَأَتْهُ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ: (وَخَلَقَهُمْ)، عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ، مُنْفَرِدًا بِخَلْقِهِ إِيَّاهُمْ.. وَذُكِرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ مَا:- حَدَّثَنِي بِهِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، عَنْ وَاصِلٍ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ: أَنَّهُ قَالَ: “ {شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلْقَهُمْ} “. بِجَزْمِ “ اللَّامِ “ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْجِنَّ شُرَكَاءُ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ إِيَّانَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: (وَخَلَقَهُمْ)، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقَرَأَةِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: (خَرَقُوا) اخْتَلَقُوا. يُقَالُ: “ اخْتَلَقَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ كَذِبًا “ وَ“ اخْتَرَقَهُ “، إِذَا افْتَعَلَهُ وَافْتَرَاهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَاللَّهُ خَلَقَهُمْ “ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ “، يَعْنِي أَنَّهُمْ تَخَرَّصُوا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ “، قَالَ: جَعَلُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ “، قَالَ: كَذَبُوا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} “ كَذَبُوا “ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ “، عَمَّا يَكْذِبُونَ. أَمَّا الْعَرَبُ فَجَعَلُوا لَهُ الْبَنَاتِ، وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الْغِلْمَانِ وَأَمَّا الْيَهُودُ فَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: “ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ “ قَالَ: خَرَصُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} “، يَقُولُ: قَطَعُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. قَالَتِ الْعَرَبُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: الْمَسِيحُ وَعُزَيْرٌ ابْنَا اللَّهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} “، قَالَ: “ خَرَقُوا “، كَذَبُوا، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ بَنُونَ وَلَا بَنَاتٌ قَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ فَكُلٌّ خَرَقُوا الْكَذِبَ، “ وَخَرَقُوا “، اخْتَرَقُوا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: “ {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} “، قَالَ: قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ “ وَخَرَقُوا لَهُ “، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: “ خَرَقُوا “، كَذَبُوا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: “ {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} “، قَالَ: وَصَفَوَا لَهُ. حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: “ {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} “، قَالَ: تَفْسِيرُهَا: وَكَذَبُوا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا: وَجَعَلُوا لِلَّهِ الْجِنَّ شُرَكَاءَ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِهِمْ بِغَيْرِ شَرِيكٍ وَلَا مُعِينٍ وَلَا ظَهِيرٍ “ {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} “، يَقُولُ: وَتَخَرَّصُوا لِلَّهِ كَذِبًا، فَافْتَعَلُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمْ بِحَقِيقَةِ مَا يَقُولُونَ، وَلَكِنْ جَهْلًا بِاللَّهِ وَبِعَظَمَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَعِي لِمَنْ كَانَ إِلَهًا أَنْ يَكُونَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ وَلَا صَاحِبَةٌ، وَلَا أَنْ يُشْرِكَهُ فِي خَلْقِهِ شَرِيكٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: تَنَزَّهَ اللَّهُ، وَعَلَا فَارْتَفَعَ عَنِ الَّذِي يَصِفُهُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ مِنْ خَلْقِهِ، فِي ادِّعَائِهِمْ لَهُ شُرَكَاءَ مِنَ الْجِنِّ، وَاخْتِرَاقِهِمْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ، وَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ خَلْقِهِ الَّذِينَ يَكُونُ مِنْهُمُ الْجِمَاعُ الَّذِي يَحْدُثُ عَنْهُ الْأَوْلَادُ، وَالَّذِينَ تَضْطَرُّهُمْ لِضَعْفِهِمُ الشَّهَوَاتُ إِلَى اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ لِقَضَاءِ اللَّذَّاتِ، وَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِالْعَاجِزِ فَيَضْطَرَّهُ شَيْءٌ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا بِالضَّعِيفِ الْمُحْتَاجِ فَتَدْعُوَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النِّسَاءِ إِلَى اتِّخَاذِ صَاحِبَةٍ لِقَضَاءِ لَذَّةٍ. وَقَوْلُهُ: “ تَعَالَى “، “ تَفَاعَلَ “ مِنَ “ الْعُلُوِّ “، وَالِارْتِفَاعِ. وَرُوِِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: “ عَمَّا يَصِفُونَ “، أَنَّهُ: يَكْذِبُونَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: “ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ “، عَمَّا يَكْذِبُونَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ قَتَادَةَ عَنَى بِتَأْوِيلِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ، أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ فِي وَصْفِهِمُ اللَّهَ بِمَا كَانُوا يَصِفُونَهُ بِهِ، مِنَ ادِّعَائِهِمْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ لَا أَنَّهُ وَجْهُ تَأْوِيلِ “ الْوَصْفِ “ إِلَى الْكَذِبِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ بِهِ لَهُ الْجِنَّ شُرَكَاءَ، وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ “ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ “، يَعْنِي: مُبْتَدِعُهَا وَمُحْدِثُهَا وَمُوجِدُهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، كَمَا:- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: “ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ “، قَالَ: هُوَ الَّذِي ابْتَدَعَ خَلْقَهُمَا جَلَّ جَلَالُهُ، فَخَلَقَهُمَا وَلَمْ يَكُونَا شَيْئًا قَبْلَهُ. “ {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} “، وَالْوَلَدُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ صَاحِبَةٌ، فَيَكُونَ لَهُ وَلَدٌ. وَذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ. يَقُولُ: فَإِذَا كَانَ لَا شَيْءَ إِلَّا اللَّهُ خَلَقَهُ، فَأَنَّى يَكُونُ لِلَّهِ وَلَدٌ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ فَيَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ؟
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ. وَكُلُّ مَا تَدَّعُونَ- أَيُّهَا الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ الْأَوْثَانَ مِنْ دُونِهِ- خَلْقُهُ وَعَبِيدُهُ، مَلَكًا كَانَ الَّذِي تَدَّعُونَهُ رَبًّا- وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَهُ وَلَدٌ- أَوْ جِنِّيًّا أَوْ إِنْسِيًّا “ {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} “، يَقُولُ: وَاللَّهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا خَلَقَ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، عَالِمٌ بِعَدَدِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، وَأَعْمَالِ مَنْ دَعَوْتُمُوهُ رَبًّا أَوْ لِلَّهِ وَلَدًا، وَهُوَ مُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ، حَتَّى يُجَازِيَ كُلًّا بِعَمَلِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، هُوَ اللَّهُ رَبُّكُمْ، أَيُّهَا الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ، وَالْجَاعِلُونَ لَهُ الْجِنَّ شُرَكَاءَ، وَآلِهَتُكُمُ الَّتِي لَا تَمْلِكُ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا تَفْعَلُ خَيْرًا وَلَا شَرًّا “ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ “. وَهَذَا تَكْذِيبٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلَّذِينِ زَعَمُوا أَنَّ الْجِنَّ شُرَكَاءُ اللَّهِ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ: أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ، إِنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ الْأُلُوهِيَّةُ وَالْعِبَادَةُ، إِلَّا الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عِبَادَتُكُمْ وَعِبَادَةُ جَمِيعِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا لَهُ خَالِصَةً بِغَيْرِ شَرِيكٍ تُشْرِكُونَهُ فِيهَا، فَإِنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَبَارِئُهُ وَصَانِعُهُ، وَحَقٌّ عَلَى الْمَصْنُوعِ أَنْ يُفْرِدَ صَانِعَهُ بِالْعِبَادَةِ “ فَاعْبُدُوهُ “، يَقُولُ: فَذِلُّوا لَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْخِدْمَةِ، وَاخْضَعُوا لَهُ بِذَلِكَ. “ {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} “، يَقُولُ: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَ مِنْ شَيْءٍ رَقِيبٌ وَحَفِيظٌ، يَقُومُ بِأَرْزَاقِ جَمِيعِهِ وَأَقْوَاتِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَصْرِيفِهِ بِقُدْرَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: “ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ“. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ، وَهُوَ يُحِيطُ بِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: “ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} “، يَقُولُ: لَا يُحِيطُ بَصَرُ أَحَدٍ بِالْمَلِكِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: “ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} “، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ. حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَرْفَجَةَ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سُورَةُ الْقِيَامَةِ: 23]، قَالَ: هُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ، لَا تُحِيطُ أَبْصَارُهُمْ بِهِ مِنْ عَظْمَتِهِ، وَبَصَرُهُ يُحِيطُ بِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: “ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ “، الْآيَةَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاعْتَلَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِقَوْلِهِمْ هَذَا، بِأَنْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: “ {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ} “، [يُونُسَ] قَالُوا: فَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْغَرَقَ بِأَنَّهُ أَدْرَكَ فِرْعَوْنَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَرَقَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ رَآهُ، وَلَا هُوَ مِمَّا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ يَرَى شَيْئًا. قَالُوا: فَمَعْنَى قَوْلِهِ: “ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} “ بِمَعْنَى: لَا تَرَاهُ، بِعِيدٌ. لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُدْرِكُ الشَّيْءَ وَلَا يَرَاهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ أَصْحَابِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُوسَى حِينَ قَرُبَ مِنْهُمْ أَصْحَابُ فِرْعَوْنَ: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}، [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 61]؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ وَعَدَ نَبِِيَّهُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ لَا يُدْرَكُونَ، لِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى}، [سُورَةُ طه: 77]. قَالُوا: فَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ قَدْ يَرَى الشَّيْءَ وَلَا يُدْرِكُهُ، وَيُدْرِكُهُ وَلَا يَرَاهُ، فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: “ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} “، مِنْ مَعْنَى: لَا تَرَاهُ الْأَبْصَارُ، بِمَعْزِلٍ وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ؛ لِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ. قَالُوا: فَالْمُؤْمِنُونَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ بِأَبْصَارِهِمْ، وَلَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُهُمْ، بِمَعْنَى: أَنَّهَا لَا تُحِيطُ بِهِ؛ إِذْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِأَنَّ شَيْئًا يُحِيطُ بِهِ. قَالُوا: وَنَظِيرُ جَوَازِ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ يُرَى وَلَا يُدْرَكُ، جَوَازُ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ وَلَا يُحَاطُ بِعِلْمِهِ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 255]. قَالُوا: فَنَفَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ خَلْقِهِ أَنْ يَكُونُوا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ. قَالُوا: وَمَعْنَى “ الْعِلْمِ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الْمَعْلُومُ. قَالُوا: فَلَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِهِ عَنْ خَلْقِهِ أَنْ يُحِيطُوا بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ، نَفْيٌ عَنْ أَنْ يَعْلَمُوهُ. قَالُوا: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِ الْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ عِلْمًا نَفْيٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ فِي نَفْيِ إِدْرَاكِ اللَّهِ عَنِ الْبَصَرِ، نَفْيُ رُؤْيَتِهِ لَهُ. قَالُوا: وَكَمَا جَازَ أَنْ يَعْلَمَ الْخَلْقُ أَشْيَاءَ وَلَا يُحِيطُونَ بِهَا عِلْمًا، كَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَرَوْا رَبَّهُمْ بِأَبْصَارِهِمْ وَلَا يُدْرِكُوهُ بِأَبْصَارِهِمْ، إِذْ كَانَ مَعْنَى “ الرُّؤْيَةِ “ غَيْرَ مَعْنَى “ الْإِدْرَاكِ “، وَمَعْنَى “ الْإِدْرَاكِ “ غَيْرَ مَعْنَى “ الرُّؤْيَةِ “، وَأَنَّ مَعْنَى “ الْإِدْرَاكِ “، إِنَّمَا هُوَ الْإِحَاطَةُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. قَالُوا: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: “ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} “، لَا تَرَاهُ الْأَبْصَارُ؟ قُلْنَا لَهُ: أَنْكَرْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ وُجُوهًا فِي الْقِيَامَةِ إِلَيْهِ نَاظِرَةٌ، «وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أُمَّتَهُ أَنَّهُمْ سَيَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ لَيْسَ دُونَهَا سَحَاب». قَالُوا: فَإِذْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِمَا أَخْبَرَ، وَحَقَّقَتْ أَخْبَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسُلَّمَ بِمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ مِنْ قِيلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سُورَةُ الْقِيَامَةِ: 23]، أَنَّهُ نَظَرُ أَبْصَارِ الْعُيُونِ لِلَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَكَانَ كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ، إِذْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ فِي الْأَخْبَارِ لِمَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا: “ كِتَابِ لَطِيفِ الْبَيَانِ، عَنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ “، وَغَيْرِهِ عُلِمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: “ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} “، غَيْرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، فَإِنَّأَهْلَ الْجَنَّةِ يَنْظُرُونَ بِأَبْصَارِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى اللَّهِ، وَلَا يُدْرِكُونَهُ بِهَا، تَصْدِيقًا لِلَّهِ فِي كِلَا الْخَبَرَيْنِ، وَتَسْلِيمًا لِمَا جَاءَ بِهِ تَنْزِيِلُهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فِي السُّورَتَيْنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تَرَاهُ الْأَبْصَارُ، وَهُوَ يَرَى الْأَبْصَارَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} “، لَا يَرَاهُ شَيْءٌ، وَهُوَ يَرَى الْخَلَائِقَ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَة قالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ! “ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} “، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}، [سُورَةُ الشُّورَى: 51]، وَلَكِنْ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُلِ عَائِشَة: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ! ثُمَّ قَرَأَتْ: “ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ “. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى وَابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَة بنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَة: مَنْ قَالَ إِنَّ أَحَدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ! قَالَ اللَّهُ: “ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ “. فَقَالَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ: مَعْنَى “ الْإِدْرَاكُ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الرُّؤْيَةُ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُرَى بِالْأَبْصَارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، بِمَعْنَى انْتِظَارِهَا رَحْمَةَ اللَّهِ وَثَوَابَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَصْحِيحِ الْقَوْلِ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَأْوِيلَاتٍ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ مَجِيئَهَا، وَدَافَعُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَدُّوا الْقَوْلَ فِيهِ إِلَى عُقُولِهِمْ، فَزَعَمُوا أَنَّ عُقُولَهُمْ تُحِيلُ جَوَازَ الرُّؤْيَةِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْأَبْصَارِ، وَأَتَوْا فِي ذَلِكَ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّمْوِيهَاتِ، وَأَكْثَرُوا الْقَوْلَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِخْرَاجَاتِ. وَكَانَ مِنْ أَجَلِّ مَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِهِ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ مِنَ الدَّلِيلِ، أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا أَبْصَارَهُمْ تَرَى شَيْئًا إِلَّا مَا بَايَنَهَا دُونَ مَا لَاصَقَهَا، فَإِنَّهَا لَا تَرَى مَا لَاصَقَهَا. قَالُوا: فَمَا كَانَ لِلْأَبْصَارِ مُبَايِنًا مِمَّا عَايَنَتْهُ، فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَضَاءً وَفُرْجَةً. قَالُوا: فَإِنْ كَانَتِ الْأَبْصَارُ تَرَى رَبَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نَحْوِ مَا تَرَى الْأَشْخَاصُ الْيَوْمَ، فَقَدْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الصَّانِعُ مَحْدُودًا. قَالُوا: وَمَنْ وَصَفَهُ بِذَلِكَ، فَقَدْ وَصَفَهُ بِصِفَاتِ الْأَجْسَامِ الَّتِي يَجُوزُ عَلَيْهَا الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ. قَالُوا: وَأُخْرَى، أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْأَبْصَارِ أَنْ تُدْرِكَ الْأَلْوَانَ، كَمَا مِنْ شَأْنِ الْأَسْمَاعِ أَنْ تُدْرِكَ الْأَصْوَاتَ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُتَنَسِّمِ أَنْ يُدْرِكَ الْأَعْرَافَ. قَالُوا: فَمِنَ الْوَجْهِ الَّذِي فَسَدَ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا أَنْ يُقْضَى لِلسَّمْعِ بِغَيْرِ إِدْرَاكِ الْأَصْوَاتِ، وَلِلْمُتَنَسِّمِ إِلَّا بِإِدْرَاكِ الْأَعْرَافِ، فَسَدَ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا الْقَضَاءُ لِلْبَصَرِ إِلَّا بِإِدْرَاكِ الْأَلْوَانِ. قَالُوا: وَلِمَا كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ ذُو لَوْنٍ، صَحَّ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ مَرْئِيٌّ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُ الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا تُدْرِكُهُ. وَقَالَ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: “ الْإِدْرَاكُ “ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الرُّؤْيَةُ. وَاعْتَلَّ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِقَوْلِهِمْ هَذَا بِأَنْ قَالُوا: “ الْإِدْرَاكُ “، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِغَيْرِ مَعْنَى الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ مِنْ أَحَدِ مَعَانِيهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَلْحَقَ بَصَرُهُ شَيْئًا فَيَرَاهُ، وَهُوَ لَمَّا أَبْصَرَهُ وَعَايَنَهُ غَيْرُ مُدْرِكٍ، وَإِنْ لَمْ يُحِطْ بِأَجْزَائِهِ كُلِّهَا رُؤْيَةً. قَالُوا: فَرُؤْيَةُ مَا عَايَنَهُ الرَّائِي إِدْرَاكٌ لَهُ، دُونَ مَا لَمْ يَرَهُ. قَالُوا: وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ وُجُوهًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَيْهِ نَاظِرَةٌ. قَالُوا، فَمُحَالٌ أَنْ تَكُونَ إِلَيْهِ نَاظِرَةً وَهِيَ لَهُ غَيْرُ مُدْرِكَةٍ رُؤْيَةً. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِي أَخْبَارِ اللَّهِ تَضَادٌّ وَتَعَارُضٌ، وَجَبَ وَصَحَّ أَنَّ قَوْلَهُ: “ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ “، عَلَى الْخُصُوصِ لَا عَلَى الْعُمُومِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِذْ كَانَ اللَّهُ قَدِ اسْتَثْنَى مَا اسْتَثْنَى مِنْهُ بِقَوْلِهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: الْآيَةُ عَلَى الْخُصُوصِ، إِلَّا أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُ الظَّالِمِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتُدْرِكُهُ أَبْصَارُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ. قَالُوا: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ بِالنِّهَايَةِ وَالْإِحَاطَةِ، وَأَمَّا بِالرُّؤْيَةِ فَبَلَى. قَالُوا: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فِي الدُّنْيَا وَتُدْرِكُهُ فِي الْآخِرَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا: لَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُ مَنْ يَرَاهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ الْقَدِيمُ أَبْصَارَ خَلْقِهِ فَيَكُونُ الَّذِي نَفَى عَنْ خَلْقِهِ مِنْ إِدْرَاكِ أَبْصَارِهِمْ إِيَّاهُ، هُوَ الَّذِي أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ؛ إِذْ كَانَتْ أَبْصَارُهُمْ ضَعِيفَةً لَا تَنْفُذُ إِلَّا فِيمَا قَوَّاهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى النُّفُوذِ فِيهِ، وَكَانَتْ كُلُّهَا مُتَجَلِّيَةً لِبَصَرِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ. قَالُوا: وَلَا شَكَّ فِي خُصُوصِ قَوْلِهِ: “ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ “، وَأَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ سَيَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِهِمْ، غَيْرَ أَنَّا لَا نَدْرِي أَيَّ مَعَانِي الْخُصُوصِ الْأَرْبَعَةِ أُرِيدُ بِالْآيَةِ. وَاعْتَلُّوا لِتَصْحِيحِ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى فِي الْآخِرَةِ، بِنَحْوِ عِلَلِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ، وَلَنْ يُدْرِكَ اللَّهَ بَصَرُ أَحَدٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ; وَلَكِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ لِأَوْلِيَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَاسَّةً سَادِسَةً سِوَى حَوَاسِّهِمُ الْخَمْسِ، فَيَرَوْنَهُ بِهَا. وَاعْتَلُّوا لِقَوْلِهِمْ هَذَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَفَى عَنِ الْأَبْصَارِ أَنْ تُدْرِكَهَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ فِيهَا أَوْ بِآيَةٍ غَيْرِهَا عَلَى خُصُوصِهَا. قَالُوا: وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ وُجُوهًا إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاظِرَةٌ. قَالُوا: فَأَخْبَارُ اللَّهِ لَا تَتَنَافَى وَلَا تَتَعَارَضُ، وَكِلَا الْخِبْرَيْنِ صَحِيحٌ مَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ التَّنْزِيلُ. وَاعْتَلُّوا أَيْضًا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ بِأَنْ قَالُوا: إِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ نَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ بِأَبْصَارِنَا هَذِهِ وَإِنْ زِيدَ فِي قُوَاهَا، وَجَبَ أَنْ نَرَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ ضَعُفَتْ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَاسَّةٍ خُلِقَتْ لِإِدْرَاكِ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، فَهِيَ وَإِنْ ضَعُفَتْ كُلَّ الضَّعْفِ، فَقَدْ تُدْرِكُ مَعَ ضَعْفِهَا مَا خُلِقَتْ لِإِدْرَاكِهِ وَإِنْ ضَعُفَ إِدْرَاكُهَا إِيَّاهُ، مَا لَمْ تُعْدَمْ. قَالُوا: فَلَوْ كَانَ فِي الْبَصَرِ أَنْ يُدْرِكَ صَانِعَهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَوْ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَيَرَاهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ يُدْرِكُهُ فِي الدُّنْيَا وَيَرَاهُ فِيهَا وَإِنْ ضَعُفَ إِدْرَاكُهُ إِيَّاهُ. قَالُوا: فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَوْجُودٍ مِنْ أَبْصَارِنَا فِي الدُّنْيَا، كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِهَيْئَتِهَا فِي الدُّنْيَا فِي أَنَّهَا لَا تُدْرِكُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهَا إِدْرَاكُهُ فِي الدُّنْيَا. قَالُوا: فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ وُجُوهًا فِي الْآخِرَةِ تَرَاهُ، عُلِمَ أَنَّهَا تَرَاهُ بِغَيْرِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ، إِذْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ إِلَّا حَقًّا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: “ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ “ “ وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ “»، فَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَهُ، وَالْكَافِرُونَ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ مَحْجُوبُونَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ: 15]. فَأَمَّا مَا اعْتَلَّ بِهِ مُنْكِرُو رُؤْيَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَبْصَارِ، لَمَّا كَانَتْ لَا تَرَى إِلَّا مَا بَايَنَهَا، وَكَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَضَاءٌ وَفُرْجَةٌ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ اللَّهِ بِالْأَبْصَارِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِثْبَاتَ حَدٍّ لَهُ وَنِهَايَةٍ، فَبَطَلَ عِنْدَهُمْ لِذَلِكَ جَوَازُ الرُّؤْيَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَوْصُوفًا بِالتَّدْبِيرِ سِوَى صَانِعِكُمْ، إِلَّا مُمَاسًّا لَكُمْ أَوْ مُبَايِنًا؟ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، كُلِّفُوا تَبْيِينَهُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ. وَإِنْ قَالُوا: لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُمْ: أَوَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتُمُوهُ لَا مُمَاسًّا لَكُمْ وَلَا مُبَايِنًا، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِالتَّدْبِيرِ وَالْفِعْلِ، وَلَمْ يَجِبْ عِنْدَكُمْ إِذْ كُنْتُمْ لَمْ تَعْلَمُوا مَوْصُوفًا بِالتَّدْبِيرِ وَالْفِعْلِ غَيْرَهُ إِلَّا مُمَاسًّا لَكُمْ أَوْ مُبَايِنًا، أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِيلًا الْعِلْمُ بِهِ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِالتَّدْبِيرِ وَالْفِعْلِ، لَا مُمَاسَّ وَلَا مُبَايِنَ؟ فَإِنْ قَالُوا: ذَلِكَ كَذَلِكَ. قِيلَ لَهُمْ: فَمَا تُنْكِرُونَ أَنْ تَكُونَ الْأَبْصَارُ كَذَلِكَ لَا تَرَى إِلَّا مَا بَايَنَهَا وَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فُرْجَةٌ، قَدْ تَرَاهُ وَهُوَ غَيْرُ مُبَايِنٍ لَهَا وَلَا فُرْجَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَلَا فَضَاءَ، كَمَا لَا تَعْلَمُ الْقُلُوبُ مَوْصُوفًا بِالتَّدْبِيرِ إِلَّا مُمَاسًّا لَهَا أَوْ مُبَايِنًا، وَقَدْ عَلِمَتْهُ عِنْدَكُمْ لَا كَذَلِكَ؟ وَهَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالتَّدْبِيرِ وَالْفِعْلِ مَعْلُومًا، لَا مُمَاسًّا لِلْعَالَمِ بِهِ أَوْ مُبَايِنًا وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِرُؤْيَةِ الْأَبْصَارِ، لَا مُمَاسًّا لَهَا وَلَا مُبَايِنًا، فَرْقٌ؟ ثُمَّ يُسْأَلُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ، فَلَنْ يَقُولُوا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمُوا فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ. وَكَذَلِكَ يُسْأَلُونَ فِيمَا اعْتَلُّوا بِهِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْأَبْصَارِ إِدْرَاكَ الْأَلْوَانِ، كَمَا أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْأَسْمَاعِ إِدْرَاكَ الْأَصْوَاتِ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُتَنَسِّمِ دَرْكَ الْأَعْرَافِ، فَمِنَ الْوَجْهِ الَّذِي فَسَدَ أَنْ يُقْضَى لِلسَّمْعِ بِغَيْرِ دَرْكِ الْأَصْوَاتِ، فَسَدَ أَنْ يُقْضَى لِلْأَبْصَارِ لِغَيْرِ دَرْكِ الْأَلْوَانِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَسْتُمْ لَمْ تَعْلَمُوا فِيمَا شَاهَدْتُمْ وَعَايَنْتُمْ، مَوْصُوفًا بِالتَّدْبِيرِ وَالْفِعْلِ إِلَّا ذَا لَوْنٍ، وَقَدْ عَلِمْتُمُوهُ مَوْصُوفًا بِالتَّدْبِيرِ لَا ذَا لَوْنٍ؟ فَإِنْ قَالُوا: “ نَعَمْ “ لَا يَجِدُونَ مِنَ الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ بُدًّا، إِلَّا أَنْ يَكْذِبُوا فَيَزْعُمُوا أَنَّهُمْ قَدْ رَأَوْا وَعَايَنُوا مَوْصُوفًا بِالتَّدْبِيرِ وَالْفِعْلِ غَيْرَ ذِي لَوْنٍ، فَيُكَلَّفُونَ بَيَانَ ذَلِكَ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْأَبْصَارُ فِيمَا شَاهَدْتُمْ وَعَايَنْتُمْ لَمْ تَجِدُوهَا تُدْرِكُ إِلَّا الْأَلْوَانَ، كَمَا لَمْ تَجِدُوا أَنْفُسَكُمْ تَعْلَمُ مَوْصُوفًا بِالتَّدْبِيرِ إِلَّا ذَا لَوْنٍ، وَقَدْ وَجَدْتُمُوهَا عَلِمَتْهُ مَوْصُوفًا بِالتَّدْبِيرِ غَيْرَ ذِي لَوْنٍ. ثُمَّ يُسْأَلُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ، فَلَنْ يَقُولُوا فِي أَحَدِهِمَا شَيْئًا إِلَّا أُلْزِمُوا فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ. وَلِأَهْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مَسَائِلُ فِيهَا تَلْبِيسٌ، كَرِهْنَا ذِكْرَهَا وَإِطَالَةَ الْكِتَابِ بِهَا وَبِالْجَوَابِ عَنْهَا، إِذْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُنَا فِي كِتَابِنَا هَذَا قَصْدَ الْكَشْفِ عَنْ تَمْوِيهَاتِهِمْ، بَلْ قَصْدُنَا فِيهِ الْبَيَانُ عَنْ تَأْوِيلِ آيِ الْفُرْقَانِ. وَلَكُنَّا ذَكَرْنَا الْقَدْرَ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لِيَعْلَمَ النَّاظِرُ فِي كِتَابِنَا هَذَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ إِلَّا إِلَى مَا لَبَّسَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، مِمَّا يَسْهُلُ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ الْبَيَانُ عَنْ فَسَادِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ فِي قَوْلِهِمْ إِلَى آيَةٍ مِنَ التَّنْزِيلِ مُحْكَمَةٍ، وَلَا رِوَايَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحِيحَةٍ وَلَا سَقِيمَةٍ، فَهُمْ فِي الظُّلُمَاتِ يَخْبِطُونَ، وَفِي الْعَمْيَاءِ يَتَرَدَّدُونَ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحِيرَةِ وَالضَّلَالَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ وَهُوَ {اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} “، فَإِنَّهُ يَقُولُ: وَاللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْمُتَيَسِّرُ لَهُ مِنْ إِدْرَاكِ الْأَبْصَارِ، وَالْمُتَأَتِّي لَهُ مِنَ الْإِحَاطَةِ بِهَا رُؤْيَةُ مَا يَعْسُرُ عَلَى الْأَبْصَارِ مِنْ إِدْرَاكِهَا إِيَّاهُ وَإِحَاطَتِهَا بِهِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهَا، “ الْخَبِيرُ “، يَقُولُ: الْعَلِيمُ بِخَلْقِهِ وَأَبْصَارِهِمْ، وَالسَّبَبِ الَّذِي لَهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا إِدْرَاكُهُ، فَلَطَفَ بِقُدْرَتِهِ فَهَيَّأَ أَبْصَارَ خَلْقِهِ هَيْئَةً لَا تُدْرِكُهُ، وَخَبَرَ بِعَلَمِهِ كَيْفَ تَدْبِيرُهَا وَشُئُونُهَا وَمَا هُوَ أَصْلَحُ بِخَلْقِهِ، كَالَّذِي: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: “ {اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} “، قَالَ: “ اللَّطِيفُ “ بِاسْتِخْرَاجِهَا “ الْخَبِيرُ “، بِمَكَانِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَبَّهَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: “ {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} “ إِلَى قَوْلِهِ: “ وَهُوَ {اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} “ عَلَى حُجَجِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ مَعَهُمْ، الْعَادِلِينَ بِهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَنْدَادَ، وَالْمُكَذِّبِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: “ قَدْ جَاءَكُمْ “، أَيُّهَا الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ، وَالْمُكَذِّبُونَ رَسُولَهُ “ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ “، أَيْ: مَا تُبْصِرُونَ بِهِ الْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ، وَالْإِيمَانَ مِنَ الْكُفْرِ. وَهِيَ جَمْعُ “ بَصِيرَةٍ “، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَى أَكْتَافِهِمْ *** وَبَصِيرَتِي يَعْدُو بِهَا عَتَدٌ وَأَى يَعْنِي بِالْبَصِيرَةِ الْحُجَّةَ الْبَيِّنَةَ الظَّاهِرَةَ، كَمَا:- حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: “ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ “ قَالَ: “ الْبَصَائِرُ “ الْهُدَى، بَصَائِرُ فِي قُلُوبِهِمْ لِدِينِهِمْ، وَلَيْسَتْ بِبَصَائِرِ الرُّءُوسِ. وَقَرَأَ: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [سُورَةُ الْحَجِّ: 46] وَقَالَ: إِنَّمَا الدِّينُ بَصَرُهُ وَسَمْعُهُ فِي هَذَا الْقَلْبِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: “ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ “، أَيْ بَيِّنَةٌ. وَقَوْلُهُ: “ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ “ يَقُولُ: فَمَنْ تَبَيَّنَ حُجَجَ اللَّهِ وَعَرَفَهَا وَأَقَرَّ بِهَا، وَآمَنَ بِمَا دَلَّتْهُ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ، فَإِنَّمَا أَصَابَ حَظَّ نَفْسِهِ، وَلِنَفْسِهِ عَمِلَ، وَإِيَّاهَا بَغَى الْخَيْرَ “ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا “، يَقُولُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهَا، وَلَمْ يُصَدِّقْ بِمَا دَلَّتْهُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَنْزِيلِهِ، وَلَكِنَّهُ عَمِيَ عَنْ دَلَالَتِهَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا، يَقُولُ: فَنَفْسَهُ ضَرَّ، وَإِلَيْهَا أَسَاءَ لَا إِلَى غَيْرِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: “ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ “، يَقُولُ: وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِرَقِيبٍ أُحْصِي عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَأَفْعَالَكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، وَاللَّهُ الْحَفِيظُ عَلَيْكُمْ، الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا صَرَّفْتُ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ الْآيَاتِ وَالْحُجَجَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَبَيَّنْتُهَا، فَعَرَّفْتُكُمُوهَا، فِي تَوْحِيدِي وَتَصْدِيقِ رَسُولِي وَكِتَابِي وَوَقَّفْتُكُمْ عَلَيْهَا، فَكَذَلِكَ أُبَيِّنُ لَكُمْ آيَاتِي وَحُجَجِي فِي كُلِّ مَا جَهِلْتُمُوهُ فَلَمْ تَعْرِفُوهُ مِنْ أَمْرِي وَنَهْيِي، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: “ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ “، لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمْ، كَمَا صَرَّفْتُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَلِئَلَّا يَقُولُوا: دَرَسْتَ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}، يَعْنِي: قَرَأْتَ أَنْتَ، يَا مُحَمَّدُ، بِغَيْرِ “ أَلِفٍ “. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ فِيهِ، وَغَيْرُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قِرَاءَةُ بَعْضِ قَرَأَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: “ وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ “، بِأَلِفٍ، بِمَعْنَى: قَارَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ: “ دُرِسَتْ “، بِمَعْنَى: قُرِئَتْ وَتُلِيَتْ. وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ: “ دَرَسَتْ “، بِمَعْنَى: انْمَحَتْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}، بِتَأْوِيلِ قَرَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ; لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ قِيلِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [سُورَةُ النَّحْلِ: 103]. فَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ يُنْبِئُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا يَتَعَلَّمُ مُحَمَّدٌ مَا يَأْتِيكُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَقِرَاءَةُ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}، يَا مُحَمَّدُ، بِمَعْنَى: تَعَلَّمْتَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَشْبَهُ بِالْحَقِّ، وَأَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ: “ دَارَسْتَ “، بِمَعْنَى: قَارَأْتَهُمْ وَخَاصَمْتَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، عَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِ الْقَرَأَةِ فِي قِرَاءَتِهِ. ذِكْرُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}، مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَتَأْوِيلُهُ بِمَعْنَى: تَعَلَّمْتَ وَقَرَأْتَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}، قَالُوا: قَرَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ. تَقُولُ ذَلِكَ قُرَيْشٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} قَالَ: قَرَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ وَافَقَهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}، قَالَ: قَرَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}، يَقُولُ: قَرَأْتَ الْكُتُبَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: (دَرَسْتَ)، يَقُولُ: تَعَلَّمْتَ وَقَرَأْتَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: (دَرَسْتَ)؟ قَالَ: قَرَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. ذِكْرُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ {دَارَسْتَ}، وَتَأَوَّلَهُ بِمَعْنَى جَادَلَتْ، مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ. حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ دَارَسْتَ “، يَقُولُ: قَارَأْتَ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: “ وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ “، أَحْسَبُهُ قَالَ: قَارَأْتَ أَهْلَ الْكِتَابِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: “ {وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ} “، قَالَ: قَارَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ التَّمِيمِيَّ يَقُولُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: “ {وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ} “، قَالَ: قَارَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي الْمُعَلَّى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا: “ دَارَسْتَ “. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُعَلَّى قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: “ دَارَسْتَ “، بِالْأَلِفِ، بِجَزْمِ السِّينِ، وَنَصْبِ التَّاءِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ كَيْسَانَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْرَأُ: “ دَارَسْتَ “، تَلَوْتَ، خَاصَمْتَ، جَادَلْتَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ كَيْسَانَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي: “ دَارَسْتَ “، قَالَ: تَلَوْتَ، خَاصَمْتَ، جَادَلْتَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: “ وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ “، قَالَ: قَارَأْتَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَ: “ دَارَسْتَ “، بِالْأَلِفِ أَيْضًا، مُنْتَصِبَةَ التَّاءِ، وَقَالَ: قَارَأْتَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَرَأَ: “ دَارَسْتَ “، أَيْ: نَاسَخْتَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: “ دَارَسْتَ “، قَالَ: فَاقَهْتَ، قَرَأْتَ عَلَى يَهُودَ، وَقَرَءُوا عَلَيْكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ “، قَالَ: قَارَأْتَ، قَرَأْتَ عَلَى يَهُودَ، وَقَرَءُوا عَلَيْكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: “ دَارَسْتَ “، يَعْنِي، أَهْلَ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: “ دَارَسْتَ “، قَالَ: قَرَأْتَ عَلَى يَهُودَ، وَقَرَءُوا عَلَيْكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: “ وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ “، قَالَ: قَالُوا دَارَسْتَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَقَرَأْتَ الْكُتُبَ وَتَعَلَّمْتَهَا. ذِكْرُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: “ دُرِسَتْ “ بِمَعْنَى: تُلِيَتْ، وَقُرِئَتْ، عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الْقَزَّازُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ الْمُعَلِّمُ وَسَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: “ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دُرِسَتْ “، أَيْ: قُرِئَتْ وَتُعِلِّمَتْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ: “ دُرِسَتْ “، قُرِئَتْ وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: “ دَرَسَ “.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: “ دَرَسَتْ “ بِمَعْنَى: انْمَحَتْ وَتَقَادَمَتْ، أَيْ هَذَا الَّذِي تَتْلُوهُ عَلَيْنَا قَدْ مَرَّ بِنَا قَدِيمًا، وَتَطَاوَلَتْ مُدَّتُهُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقْرَأُ: “ وَلِيَقُولُوا دَرَسَتْ “، أَيْ: انْمَحَتْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: “ دَرَسَتْ “، بِغَيْرِ أَلِفٍ، بِنَصْبِ السِّينِ، وَوَقْفِ التَّاءِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: إِنَّ صِبْيَانًا هَهُنَا يَقْرَءُونَ: “ دَارَسْتَ “ وَإِنَّمَا هِيَ “ دَرَسَتْ “. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: “ وَلِيَقُولُوا دَرَسَتْ “: يَقُولُ: تَقَادَمَتْ وَانْمَحَتْ. وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ: “ دَرَسَ “، مِنْ “ دَرَسَ الشَّيْءَ “، تَلَاهُ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الثَّعْلَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ قَالَ: هِيَ فِي حَرْفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ: “ وَلِيَقُولُوا دَرَسَ “، قَالَ: يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَرَأَ. وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ مَرَّةً: “ دَرَسْتَ “، وَمَرَّةً “ دَرَسَ “، فَيُخَاطَبُ مَرَّةً، وَيُخْبَرُ مَرَّةً، مِنْ أَجْلِ الْقَوْلِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّا أَوْلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدَنَا، وَالدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ مَا اخْتَرْنَا مِنْهَا. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: “ {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} “، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا صَرَّفْنَا الْآيَاتِ وَالْعِبَرَ وَالْحُجَجَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ، كَذَلِكَ نُصَرِّفُ لَهُمُ الْآيَاتِ فِي غَيْرِهَا، كَيْلَا يَقُولُوا لِرَسُولِنَا الَّذِي أَرْسَلْنَاهُ إِلَيْهِمْ: “ {إِنَّمَا تَعَلَّمْتَ مَا تَأْتِينَا بِهِ تَتْلُوهُ عَلَيْنَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} “، فَيَنْزَجِرُوا عَنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ، وَتَقَوُّلِهِمْ عَلَيْهِ الْإِفْكَ وَالزُّورَ، وَلِنُبَيِّنَ بِتَصْرِيفِنَا الْآيَاتِ الْحَقَّ، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ فَيَتَّبِعُوهُ وَيَقْبَلُوهُ، وَلَيْسُوا كَمَنْ إِذَا بُيِّنَ لَهُمْ عَمُوا عَنْهُ فَلَمْ يَعْقِلُوهُ، وَازْدَادُوا مِنَ الْفَهْمِ لَهُ بُعْدًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّبِعْ، يَا مُحَمَّدُ، مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ فِي وَحْيِهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْكَ، فَاعْمَلْ بِهِ، وَانْزَجِرْ عَمَّا زَجَرَكَ عَنْهُ فِيهِ، وَدَعْ مَا يَدْعُوكَ إِلَيْهِ مُشْرِكُو قَوْمِكَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، فَإِنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. يَقُولُ: لَا مَعْبُودَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْكَ إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لَهُ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي هُوَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَفَالِقُ الْإِصْبَاحِ، وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حُسْبَانًا {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، يَقُولُ: وَدَعْ عَنْكَ جِدَالَهُمْ وَخُصُومَتَهُمْ. ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ فِي بَرَاءَةَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، الْآيَةَ [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 5]. كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} وَنَحْوُهُ، مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُ نَسَخَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْرِضْ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ، وَدَعْ عَنْكَ جِدَالَهُمْ وَخُصُومَتَهُمْ وَمُسَابَّتَهُمْ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}، يَقُولُ: لَوْ أَرَادَ رَبُّكَ هِدَايَتَهُمْ وَاسْتِنْقَاذَهُمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، لَلَطَفَ لَهُمْ بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ فَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَلَآمَنُوا بِكَ فَاتَّبَعُوكَ وَصَدَّقُوا مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنَّمَا بَعَثْتُكَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا مُبَلِّغًا، وَلَمْ نَبْعَثْكَ حَافِظًا عَلَيْهِمْ مَا هُمْ عَامِلُوهُ، تُحْصِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِلَيْنَا دُونَكَ {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}، يَقُولُ: وَلَسْتَ عَلَيْهِمْ بِقَيِّمٍ تَقُومُ بِأَرْزَاقِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ وَلَا بِحِفْظِهِمْ، فِيمَا لَمْ يُجْعَلْ إِلَيْكَ حِفْظُهُ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: لَوْ شِئْتُ لَجَمَعْتُهُمْ عَلَى الْهُدَى أَجْمَعِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُو الْمُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ، فَيَسُبَّ الْمُشْرِكُونَ اللَّهَ جَهْلًا مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ، وَاعْتِدَاءً بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، قَالَ: قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، لَتَنْتَهِيَنَّ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا، أَوْ لَنَهْجُوَنَّ رَبَّكَ! فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسُبُّوا أَوْثَانَهُمْ، فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أَوْثَانَ الْكُفَّارِ، فَيَرُدُّونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَسِبُّوا لِرَبِّهِمْ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ جَهَلَةٌ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِاللَّهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، «عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْمَوْتُ، قَالَتْ قُرَيْشٌ: انْطَلِقُوا بِنَا فَلْنَدْخُلْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَلْنَأْمُرْهُ أَنْ يَنْهَى عَنَّا ابْنَ أَخِيهِ، فَإِنَّا نَسْتَحِي أَنْ نَقْتُلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَتَقُولَ الْعَرَبُ: “ كَانَ يَمْنَعُهُ فَلَمَّا مَاتَ قَتَلُوهُ “! فَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُمِّيَّةُ وَأُبَيٌّ ابْنَا خَلَفٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مَعِيطٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْبَخْتَرِيِّ، وَبَعَثُوا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: “ الْمُطَّلِبُ “، قَالُوا: اسْتَأْذَنَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ! فَأَتَى أَبَا طَالِبٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ يُرِيدُونَ الدُّخُولَ عَلَيْكَ! فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ آذَانَا وَآذَى آلِهَتَنَا، فَنُحِبُّ أَنْ تَدْعُوهُ فَتَنْهَاهُ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِنَا، وَلْنَدَعْهُ وَإِلَهَهُ! فَدَعَاهُ، فَجَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ وَبَنُو عَمِّكَ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَدَعَنَا وَآلِهَتَنَا، وَنَدَعَكَ وَإِلَهَكَ! قَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: قَدْ أَنْصَفَكَ قَوْمُكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ هَذَا، هَلْ أَنْتُمْ مُعْطِيَّ كَلِمَةً إِنْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَا مَلَكْتُمُ الْعَرَبَ، وَدَانَتْ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ، وَأَدَّتْ لَكُمُ الْخَرَاجَ؟ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: نَعَمْ وَأَبِيكَ، لِنُعْطِيَنَّكَهَا وَعَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَمَا هِيَ؟ قَالَ: قُولُوا: “ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ “! فَأَبَوْا وَاشْمَأَزُّوا. قَالَ أَبُو طَالِبٍ: يَابْنَ أَخِي، قُلْ غَيْرَهَا، فَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ فَزِعُوا مِنْهَا! قَالَ: يَا عَمِّ، مَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ غَيْرَهَا حَتَّى يَأْتُونِي بِالشَّمْسِ فَيَضَعُوهَا فِي يَدِي، وَلَوْ أَتَوْنِي بِالشَّمْسِ فَوَضَعُوهَا فِي يَدِي مَا قَلْتُ غَيْرَهَا! إِرَادَةً أَنْ يُؤْيِسَهُمْ، فَغَضِبُوا وَقَالُوا: لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِكَ آلِهَتَنَا، أَوْ لَنَشْتُمَنَّكَ وَلَنَشْتُمَنَّ مَنْ يَأْمُرُكَ.» فَذَلِكَ قَوْلُهُ {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أَصْنَامَ الْكَفَّارِ، فَيَسُبُّ الْكَفَّارُ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} قَالَ: إِذَا سَبَبْتَ إِلَهَهُ سَبَّ إِلَهَكَ، فَلَا تَسُبُّوا آلِهَتَهُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَجْمَعَتِ الْحُجَّةُ مِنْ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ عَلَى قِرَاءَةِ ذَلِكَ: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَتَسْكِينِ الدَّالِ، وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ مِنْ قَوْلِهِ: (عَدْوًا)، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: “ عَدَا فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ “، إِذَا ظَلَمَهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ، “ يَعْدُو عَدْوًا وَعُدُوًّا وَعُدْوَانًا “. وَ“ الِاعْتِدَاءُ “، إِنَّمَا هُوَ: “ افْتِعَالٌ “، مِنْ ذَلِكَ. رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: “ عُدُوًّا “ مُشَدَّدَةَ الْوَاوِ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عُدُوًّا}، مَضْمُومَةَ الْعَيْنِ، مُثَقَّلَةً. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ: “ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدُوًّا “، يُوَجِّهُ تَأْوِيلَهُ إِلَى أَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}، [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 77]، وَكَمَا قَالَ: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، [سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ: 1] وَيَجْعَلُ نَصْبَ “ الْعَدُوِّ “ حِينَئِذٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ذِكْرِ “ الْمُشْرِكِينَ “ فِي قَوْلِهِ: {فَيَسُبُّوا}، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَلَا تَسُبُّوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَدْعُو الْمُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَسُبَّ الْمُشْرِكُونَ اللَّهَ، أَعْدَاءُ اللَّهِ، بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَإِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ هَكَذَا، كَانَ “ الْعَدُوُّ “، مِنْ صِفَةِ “ الْمُشْرِكِينَ “ وَنَعْتِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَيَسُبَّ الْمُشْرِكُونَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَكِنَّ “ الْعَدُوَّ “ لَمَّا خَرَجَ مَخْرَجَ النَّكِرَةِ وَهُوَ نَعْتٌ لِلْمَعْرِفَةِ، نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مَنِ الْقَرَأَةِ عَلَى قِرَاءَةِ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ خِلَافُهَا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ مُجْمِعَةً عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا زَيَّنَّا لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَطَاعَةَ الشَّيْطَانِ بِخِذْلَانِنَا إِيَّاهُمْ عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ، كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ جَمَاعَةٍ اجْتَمَعَتْ عَلَى عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ، عَمَلَهُمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مُجْتَمِعُونَ، ثُمَّ مَرْجِعُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَصِيرُهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ “ فَيُنْبِئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ “. يَقُولُ: فَيُوقِفُهُمْ وَيُخْبِرُهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُجَازِيهِمْ بِهَا، إِنْ كَانَ خَيْرًا فَخَيْرًا، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَشَرًّا، أَوْ يَعْفُو بِفَضْلِهِ، مَا لَمْ يَكُنْ شِرْكًا أَوْ كُفْرًا.
} الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَحَلِفَ بِاللَّهِ هَؤُلَاءِ الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ جَهْدَ حَلِفِهِمْ، وَذَلِكَ أَوْكَدُ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَيْمَانِ وَأَصْعَبُهَا وَأَشَدُّهَا (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ)، يَقُولُ: قَالُوا: نُقْسِمُ بِاللَّهِ لَئِنْ جَاءَتْنَا آيَةٌ تُصَدِّقُ مَا تَقُولُ، يَا مُحَمَّدُ، مِثْلُ الَّذِي جَاءَ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْأُمَمِ (لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)، يَقُولُ: قَالُوا: لَنُصَدِّقَنَّ بِمَجِيئِهَا بِكَ، وَأَنَّكَ لِلَّهِ رَسُولٌ مُرْسَلٌ، وَأَنَّ مَا جِئْتِنَا بِهِ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: “ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا “، فَأُخْرِجَ الْخَبَرُ عَنْ “ الْآيَةِ “، وَالْمَعْنَى لِمَجِيءِ الْآيَةِ. يَقُولُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ}، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِتْيَانِكُمْ بِهَا دُونَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ (وَمَا يُشْعِرُكُمْ)، يَقُولُ: وَمَا يُدْرِيكُمْ (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)؟ وَذُكِرَ أَنَّ الَّذِينَ سَأَلُوهُ الْآيَةَ مِنْ قَوْمِهِ، هُمُ الَّذِينَ آيَسَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنْ إِيمَانِهِمْ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، إِلَى قَوْلِهِ: (يَجْهَلُونَ)، سَأَلَتْ قُرَيْشٌ مُحَمَّدًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، وَاسْتَحْلَفَهُمْ: لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ «قَالَ: كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ مَعَهُ عَصًا يَضْرِبُ بِهَا الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ ثَمُودَ كَانَتْ لَهُمْ نَاقَةٌ، فَأْتِنَا بِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ شَيْءٍ تُحِبُّونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ؟ قَالُوا: تَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا. فَقَالَ لَهُمْ: فَإِنْ فَعَلْتُ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ وَاللَّهِ، لَئِنْ فَعَلْتَ لَنَتَّبِعَنَّكَ أَجْمَعِينَ! فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: لَكَ مَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ ذَهَبًا، وَلَئِنْ أَرْسَلَ آيَةً فَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ لَنُعَذِّبَنَّهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَنْدِحْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ. فَقَالَ: بَلْ يَتُوبُ تَائِبُهُمْ.» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ) إِلَى قَوْلِهِ: (يَجْهَلُونَ).
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خُوطِبَ بِقَوْلِهِ: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ) الْمُشْرِكُونَ الْمُقْسِمُونَ بِاللَّهِ، لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ وَانْتَهَى الْخَبَرُ عِنْدَ قَوْلِهِ: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ)، ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَ مَجِيئِهَا اسْتِئْنَافًا مُبْتَدَأً.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ)، قَالَ: مَا يُدْرِيكُمْ. قَالَ: ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ)، وَمَا يُدْرِيكُمْ “ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ “، قَالَ: أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: “ {إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} “، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ فَيَقُولُ: إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ}، وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ إِذَا جَاءَتْ. ثُمَّ اسْتَقْبَلَ يُخْبِرُ عَنْهُمْ فَقَالَ: إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِكَسْرِ أَلِفِ “ إِنَّهَا “، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: “ إِنَّهَا إِذَا جَاءَتَ لَا يُؤْمِنُونَ “، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُنْقَطِعٌ عَنِ الْأَوَّلِ. وَمِمَّنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، بَعْضُ قَرَأَةِ الْمَكِّيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ ذَلِكَ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ. قَالُوا: وَذَلِكَ «أَنَّ الَّذِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ، الْمُؤْمِنُونَ بِهِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ ذَلِكَ، أَنَّ الْمُشْرِكِينَ حَلَفُوا أَنَّ الْآيَةَ إِذَا جَاءَتْ آمَنُوا وَاتَّبَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَبَّكَ ذَلِكَ! فَسَأَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ وَفِي مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ ذَلِكَ: “ قُلْ “ لِلْمُؤْمِنِينَ بِكَ يَا مُحَمَّدُ “ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ “، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْآيَاتِ إِذَا جَاءَتْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ، أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِه» فَفَتَحُوا “ الْأَلِفَ “ مِنْ “ أَنَّ “. وَمَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ، وَقَالُوا: أُدْخِلَتْ “ لَا “ فِي قَوْلِهِ: (لَا يُؤْمِنُونَ) صِلَةً، كَمَا أُدْخِلَتْ فِي قَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ}، [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 12]، وَفِي قَوْلِهِ: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}، [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: 95]، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: وَحَرَامٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا وَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ. وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْمٌ قَرَءُوا، ذَلِكَ بِفَتْحِ “ الْأَلِفِ “ مِنْ (أَنَّهَا) بِمَعْنَى: لَعَلَّهَا. وَذَكَرُوا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا مِنْهَا: “ اذْهَبْ إِلَى السُّوقِ أَنَّكَ تَشْتَرِي لِي شَيْئًا “، بِمَعْنَى: لَعَلَّكَ تَشْتَرِي. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ الْعِبَادِيِّ: أَعَاذِلَ، مَا يُدْرِيكِ أَنَّ مَنِيَّتِي *** إِلَى سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ بِمَعْنَى: لَعَلَّ مَنِيَّتِي; وَقَدْ أَنْشَدُوا فِي بَيْتِ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: ذَرِينِي أُطَوِّفْ فِي الْبِلَادِ لِأَنَّنِي *** أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدَا بِمَعْنَى: لَعَلَّنِي. وَالَّذِي أَنْشَدَنِي أَصْحَابُنَا عَنِ الْفِرَاءِ: “ لَعَلَّنِي أَرَى مَا تَرَيْنَ “. وَقَدْ أُنْشِدَ أَيْضًا بَيْتُ تَوْبَةَ بْنِ الْحُمَيِّرِ: لَهَنَّكَ يَا تَيْسًا نَزَا فِيِ مَرِيرَةٍ *** مُعَذِّبُ لَيْلَى أَنْ تَرَانِي أَزُورُهَا “ لَهَنَّكَ يَا تَيْسًا “، بِمَعْنَى: “ لَأَنَّكَ “ الَّتِي فِي مَعْنَى “ لَعَلَّكَ “، وَأَنْشَدَ بَيْتَ أَبِي النَّجْمِ الْعِجْلِيِّ: قُلْتُ لِشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ لِقَائِهِ *** أَنَّا نُغَدِّي الْقَوْمَ مِنْ شِوَائِهِ بِمَعْنَى: لَعَلَّنَا نُغَدِّي الْقَوْمَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ فِي ذَلِكَ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِهِ أَعَنَى قَوْلَهُ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَأَنَّ قَوْلَهُ: “ أَنَّهَا “، بِمَعْنَى: لَعَلَّهَا. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى تَأْوِيلَاتِهِ بِالصَّوَابِ، لِاسْتِفَاضَةِ الْقِرَاءَةِ فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ بِالْيَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: (لَا يُؤْمِنُونَ). وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ) خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ، لَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: (لَا يُؤْمِنُونَ)، بِالتَّاءِ، وَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَرَأَهُ بَعْضُ قَرَأَةِ الْمَكِّيِّينَ كَذَلِكَ، فَقِرَاءَةٌ خَارِجَةٌ عَمَّا عَلَيْهِ قَرَأَةُ الْأَمْصَارِ، وَكَفَى بِخِلَافِ جَمِيعِهِمْ لَهَا دَلِيلًا عَلَى ذَهَابِهَا وَشُذُوذِهَا. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَا يُدْرِيكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لَعَلَّ الْآيَاتِ إِذَا جَاءَتْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، فَيُعَاجَلُوا بِالنِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَلَا يُؤَخَّرُوا بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَوْ أَنَّا جِئْنَاهُمْ بِآيَةٍ كَمَا سَأَلُوا، مَا آمَنُوا، كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا قَبْلَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ:
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الْآيَةَ، قَالَ: لَمَّا جَحَدَ الْمُشْرِكُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، لَمْ تَثْبُتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَرُدَّتْ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ}، قَالَ: نَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا فَعَلْنَا بِهِمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَقَرَأَ: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ}، قَالَ: نَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ فَلَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ لَوْ رُدُّوا مِنَ الْآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا فَلَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا فِي الدُّنْيَا. قَالُوا: وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}، [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 28].
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا الْعِبَادُ قَائِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوهُ، وَعَمَلَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. قَالَ: وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، [سُورَةُ الزُّمَرِ: 58]، يَقُولُ: مِنَ الْمُهْتَدِينَ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا [إِلَى الدُّنْيَا، لَمَا اسْتَقَامُوا] عَلَى الْهُدَى، وَ[قَالَ]: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، وَقَالَ: “ {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} “، قَالَ: لَوْ رَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى، كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا: أَنَّهُ يُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَيَصْرِفُهَا كَيْفَ شَاءَ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِيَدِهِ يُقِيمُهُ إِذَا شَاءَ، وَيُزِيغُهُ إِذَا أَرَادَ وَأَنَّ قَوْلَهُ: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، دَلِيلٌ عَلَى مَحْذُوفٍ مِنَ الْكَلَامِ وَأَنَّ قَوْلَهُ: “ كَمَا “ تَشْبِيهُ مَا بَعْدَهُ بِشَيْءٍ قَبْلَهُ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ، فَنُزِيغُهَا عَنِ الْإِيمَانِ، وَأَبْصَارَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ وَمَعْرِفَةِ مَوْضِعِ الْحُجَّةِ، وَإِنْ جَاءَتْهُمُ الْآيَةُ الَّتِي سَأَلُوهَا، فَلَا يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِتَقْلِيبِنَا إِيَّاهَا قَبْلَ مَجِيئِهَا مَرَّةً قَبْلَ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَأْوِيلَهُ، كَانَتِ “ الْهَاءُ “ مِنْ قَوْلِهِ: (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ)، كِنَايَةَ ذِكْرِ “ التَّقْلِيبِ “.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَنَذَرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا عِنْدَ مَجِيئِهَا فِي تَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَاعْتِدَائِهِمْ فِي حُدُودِهِ، يَتَرَدَّدُونَ، لَا يَهْتَدُونَ لِحَقٍّ، وَلَا يُبْصِرُونَ صَوَابًا، قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْخِذْلَانُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ.
|